طرق طارق، ففتحت طبيبة عراقية باب بيتها لتفاجأ بجنود بعثيين من أمن صدام حسين، وقد اقتادوها على الفور إلى سجن لن تخرج منه إلا بعد عشر سنوات بالتمام والكمال. خافت الطبيبة لحظتها من أن تكون تلك المرة الأخيرة التي ترى فيها عائلتها وأطفالها. ولكن ما الجرم الذي ارتكبته؟ كان جرما كبيرا وشنيعا لا يغتفر: فقد تجرأت على تضميد جراح أحد المرضى، وجدته ينزف نزيفا حادا ويحتضر بسببه في أحد شوارع العاصمة بغداد! قامت الطبيبة بواجبها تجاه المريض، وبذلت كل ما تستطيع لإنقاذ حياته، إلا أنها سمعت فيما بعد، أنه ترك ليلقى حتفه نازفا شلالات من الدماء بعد الفراغ من التحقيق معه. كانت الطبيبة قد حوكمت بالسجن لتجاوزها الخطوط الحمراء لمجرد وفائها لعهد (أبوقراط) الذي قطعته على نفسها، وتعهدت بالإخلاص ومراعاة ضميرها المهني. تلك قصة واحدة من بين مئات الآلاف من القصص والمآسي التي حدثت للنساء العراقيات إبان حكم البعث.
فخلال الخمس وثلاثين سنة الماضية، عانى العراقيون من جرائم القتل والاغتصاب والتعذيب على يد جلادي نظام البعث، وعانوا كذلك من حالات (الاختفاء)، وذاقوا الأمرين من ويلاته. أما النساء، فقد فقدن الأبناء والأزواج والإخوان جراء الحرب، ووجدن أنفسهن في كثير من الأحيان وحيدات في مواجهة مسؤولياتهن الأسرية والاجتماعية، في بلد معزول عن العالم كله. وللنساء العراقيات تاريخ طويل وحظ وافر في التعليم العالي ونيل الشهادات الجامعية وفوق الجامعية، كما أنهن حققن نجاحا واضحا في المجال الوظيفي والمهني، فضلا عن مشاركتهن في الحياة العامة بقطاعيها الحكومي والخاص. وعملت الكثيرات منا كطبيبات ومهندسات ومحاميات وقانونيات ومعلمات أيضا. ولا تزال لنا هذه الكفاءات والمهارات، إلا أن صوتنا لا يستمع إليه أحد، بل ويجري تجاهله عن قصد وعلى نحو مستمر .
وكم كانت طموحاتنا كبيرة، وفرحنا غامرا، عندما جاءت قوات التحالف الدولي لتحرر بلادنا من نير وربقة استبداد صدام حسين ونظامه. وعلى رغم تقديرنا وفهمنا للمعاناة التي واجهتها الأسر والأبناء والبنات، في موت ذويها وفلذات أكبادها فدى للحرية والتخلص من الاستبداد, وكذلك إدراكنا لجسامة التضحيات والأموال التي أنفقتها الولايات المتحدة على عملية التحرير هذه، وإعادة بناء عراق حر ديمقراطي جديد، إلا أن الديمقراطية الموعودة سيخيب مسعاها ما لم تصبح المرأة العراقية طرفا أصيلا فيها.
لذا فقد كان شعورنا بالإحباط كبيرا جدا لحظة إعلان سلطات التحالف المؤقتة عن تعيين المجلس العراقي الحاكم، الذي لم تمثل فيه المرأة إلا بثلاثة مقاعد لا أكثر. ومنذ لحظة مصرع عقيلة الهاشمي، ظل تمثيل المرأة العراقية في المجلس قاصرا على مقعدين فحسب. ثم تعمق شعورنا بالإحباط إثر إعلان المجلس عن اللجنة المكلفة بصياغة مسودة الدستور العراقي الجديد. وفي هذه المرة أيضا، فقد اقتصر تشكيل اللجنة على الرجال وحدهم. واليوم فإن هناك خمسة مناصب لنواب وزراء قد تم حجزها للنساء العراقيات، وفاء من المجلس بعهد قطعه لعضوه، القتيلة الراحلة عقيلة الهاشمي.
لكن وعلى رغم هذا الشعور بالإحباط والعقبات التي تقف في طريق النساء العراقيات، إلا أنهن تمكن من تنظيم صفوفهن. كما تمكنّ من تشكيل قوة ضغط تمارس تأثيرها على سلطة التحالف المؤقتة، وكذلك المجلس العراقي الحاكم. ضمن ذلك تمكنت النساء العراقيات من تقديم العرائض والمطالب، وتنظيم وقيادة المظاهرات، إضافة إلى تدريب جماهير النساء على العمل المدني والسياسي وبناء السلام. فجماهير النساء اليوم يعملن على افتتاح دور الأيتام، وينخرطن في العمل في فصول محو الأمية، وتنظيم وتنسيق حملات وبرامج التطعيم ضد الأمراض. وخلال الشهر الماضي، كان قد تم تشكيل مجلس أعلى للنساء يتولى الإشراف على رفع وتعزيز دور ومشاركة المرأة في كافة المستويات، ومراقبة تقدم أجندة النساء العراقيات على كافة الصعد والقطاعات. وفوق ذلك، فإن هذا المجلس سوف يعمل على إعلاء صوت المرأة العراقية المنسي.
وما لم تسهم المرأة العراقية في عملية التحول الديمقراطي، بما في ذلك المشاركة في صياغة مسودة الدستور الجديد، فلن يكون هناك أي ضمان لنجاح التحول الديمقراطي.
وفيما يلي نوجز أهم المطالب التي تتقدم بها المرأة العراقية للحكومة الأميركية والشعب الأميركي: أولا إدارة حوار مع المرأة حول دورها في تأمين مستقبل حر وديمقراطي للعراق. ثانيا التمويل اللازم الذي يمكن النساء العراقيات من القيام بدورهن في تعزيز حقوقهن المدنية والديمقراطية، ثالثا: خريطة طريق واضحة لعملية الانتخابات العامة وصياغة مسودة الدستور، بحيث تشمل هذه الخريطة أصوات النساء المنسية والمهمشة. رابعا وأخيرا: تحديد جدول زمني واقعي للعملية الديمقراطية في العراق، بحيث لا يرتبط هذا التحول بأية أجندة دولية، مثل الانتخابات الأميركية المقبلة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ